التصرفات الشخصية

image_pdfimage_print

فكما مر آنفاً ان هناك وجود بين من العاطفيين في علومهم وهناك توصليين كذلك، والأنواع الأخرى من المفكرين بمشاربهم العلمية المشتركة والمختلفة يرون الدين بنظرتهم الخاصة والمتأثرة بصنائعهم، كالرياضيين والفلاسفة وأهل الصناعات كل حسب مشربه وما تأثر به من الأخلاقيات..

فالرياضياتي مثلاً قد يرفض مرونة الدين نظراً لنظراته الدقيقة والجدية المستمدة من المعادلات التي تعتمد على المنطق الرياضياتي، فلا يمكنه فكرياً استيعاب [لا يكلف الله نفساً ألا وسعها] والكيميائي يؤمن بقدرات التجربة وتأثيرها العام في صنع قراراته الحياتية والدينية، ولا استغرب ان اخذ الدليل الشرعي ولو تعسفاً دون النظر إلى مدى وثاقته أو حجيته ليجعله حجة بكل ما أوتي من قوة فكرته، بحيث يتشبث بمشاهداته الخاصة واقتناعاته، كما يصنع في مجال تخصصه حيث انه يعتمد على المحسوسات والمشاهدات الخاصة به..

كما عودنا الفيزيائيون على السؤال على المقدار بالمليمتر كسؤاله عن الكر مثلاً حينما يجاب بأن الكر مكيال وليس بوزن يتعجب ويدعي عدم الدقة في القياس وقد يختل النظام في نظره إذا لم تحدد الدقة المنشودة أما بالمليلترات أو المليغرامات حتى تصدى رجال الدين بوضع مكيال بقدر الكر وقاسوه ليرووا ظمأ الناس العلمي، رغم أن الناس قد تشتري الخضار والألياف الخضرية بالمكيال، ولهم به تسميات كالباقة والحقة وغيرها..

إن التركيز الديني والتشريعي في المعاملات يخص المتداول بين الناس وإن تغير التداول والمقياس فانه الحكم لا يتغير فيما يخص الحقوق المستقرة في الذمة وليس هناك أية صعوبة في تحويل المقاييس إن استدعى الأمر..

ولكن القول فيما يخص ما لا يستقر في الذمة شرعاً واختلاف المصطلحات بين الشريعة والمتداول بين البشر فإنه ينظر بعين الاعتبار إما شرعاً أو اجتماعياً، كالانتفاع المحرم الذي يستحق الأجر لتحليله ولكن الانتفاع المحرم بالفعل المحرم لا يمكن المعارضة عليه كما لا يمكن للمسلم المعارضة على الخمور لأنه لا يملك ما حرمه الله عليه، والانتفاع لا يستقر في الذمة ويستقر ثمنه في الشريعة، بينما المجتمع قد يتعامل منفعه بمنفعه ويعارض على تمر بتمر أجود مع حصول الزيادة لصاحب الأجود ولكن ذلك عند الشريعة ربا وهكذا.. فالاختلاف حاصل نظراً لكون الناظر لا يفهم الفوضوية التي يمكن ان يكون المجتمع عليها إذا ما استمر بمثل هذه المعاملات، أما إذا حصل البيع والشراء، وكل عقد مستقل بحد ذاته، فذلك أحفظ للحقوق في حال التنازع والتصرف في الأموال بعد سلطنته الملكية والمعاوضات..

وقد وجدنا ان المجتمعات المادية لا تؤمن بالإباحة وان آمنت فهي في نظرهم على نحو الاستغلال، اذكر مرة ان صديقاً لي سحب سيارتي بسيارته إلى مصلح السيارات لتصليح عطلها، فصاح المصلح: هذا حرام، لقد جعلته يخسر وقوداً ولم تعطه عوض ذلك!! فتفكيره منصب على ماديات المعاملات والمعاوضات المتبادلة بين الأفراد..

فالتحريم والتحليل لا يمكن إدراكهما إلا بالدليل، وهو يفتي وغيره يفتي بمنطوق قانوني كالمحامين وغيرهم ممن له صلة بصنع وتطبيق الدساتير القانونية بعد الاقتناع بما يتضمنه، والمشكلة أن علمه مقتصر على ما درسه ولا يمكنه الاعتراض دساتير صنعها البشر وبأن خلل فيها في خصم الحياة وتهاون باللابدية المتهورة مقتنعاً بأن لكل قاعدة شواذ والشواذ لا بد ان يدفعوا الثمن لراحة الأمة، بينما انه لو رأى الشريعة السمحاء لوجد للشواذ أحكاماً خاصة وعناية رفيعة المستوى..

ان الأشخاص العاطفيين الذين ذكرتهم في الباب السابق ليس لهم محل في نقاشنا نظراً لكون بابهم قد بين علل التفكير عندهم..

إن مباني الدين كلها أخروية والعمل في الدنيا بمنطوقه لتحقيق النجاة في الآخرة ولا يمكن التضحية بالدين في سبيل تحقيق ازدهار دنيوي.. ولكن السياسيين قد يبحثون عن مخرج شرعي باسم الازدهار والاقتصاديون وغيرهم لمواكبة العصر حسب التعبير الإعلامي ولو إن الأمر هو استحسان فهل الغير ومواكبته..

إن كل ما نراه في حياتنا المعاصرة من تطور يحتاج لعرضه على الدين إن شك في أمره، وخصوصاً ما يمس الدين الإسلامي من تغيير في كيفيات الشعائر والمناسك أو آلات العبادة..الخ، فهي كلها تحتاج لدعم المرجعية ولا يجب وقوعه ألا تحت أجازتها لكونها دخيلة ولو جزئياً في أمورنا الدينية..

نرى الذين ليسوا من المتخصصين يفلسفون الدين بمزاج وجداني، كمن يقول بأن حركات الصلاة كانت عبارة عن تمارين سويدية فلا داعي للرياضيين أن يقوموا بحركات الصلاة، ونرى آخرين يحرمون الزواج من زوجة ثانية إن لم تقصر الزوجة الأولى وغيرهم.. حتى يتجلى دين غريب عن الإسلام للعمل الشخصي فالعاقل لا يعمل بالقضايا الشخصية ولا يقنن قانوناً منها، فكيف بالدين الذي وضع للناس كافة؟!

وهناك من المتشرعة من لم يصل المرحلة الاستقلال بالاستنباط أو زعم ذلك الاستقلال وهو ليس مؤهل له، حيث يقوم بالخلط بين القواعد الرئيسية ويتجاوز حدودها ليصنع ديناً منفرداً عن الجميع بكثرة الشواذ في مسائله وتفرده بالأقوال والأفعال، كمن يفتي لمكسور القدم بالصلاة جالساً بشرط مضاعفة الركعات لتتساوى كل ركعتين بركعة، ويمكن أن يرى بأن المتوفى عنها زوجها لا يجوز لها ان تذكر عاطفيات الزوج باعتبار انتهاء الزوجية بالوفاة، وغيرها من الأمور الغريبة التي تتجاوز حتى الإنسانية لا الدين فحسب..

فعلى المكلف أن يدقق في فحوى الفتاوى بحسب ما يستلزم الأمر، وستبين الغي من مرامي الفتاوى للمثقف المؤمن، وسينجلي الغمام بكلام المرجع الإمام، لذلك نلفت الأنظار دائماً للمرجعيات والالتفاف حولها بعيداً عن خزعبلات المغرضين..

اذكر مرة أن الأحزاب الدينية في الانتخابات في بلد مؤمن أشاعت بحرمة الزوجة وبينونتها إن لم ينتخبهم الناخب، وهذا الأمر قد سبب ذعراً في الأوساط الجاهلة دينياً، حتى تجلى أمر المرجعية الواضح فكشف الغمام عن عيون الأنام..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*